الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال الزجاج قولًا سهلًا سلسًا لا شراسة فيه، ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}. وقال القفال في تقريره وجهان. أحدهما: أن الطائر إذا ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك. الثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه. وقال ابن عطية: استعارة أي اقطِعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر الذل هنا ولم يذكر في قوله: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وذلك بسبب عظم الحق انتهى. وبسبب شرف المأمور فإنه لا يناسب نسبة الذل إليه. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى {جناح الذل}؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أن يكون المعنى واخفض لهما جناحك كما قال: {واخفض جناحك للمؤمنين} فاضافه إلى الذل أو الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن يجعل لذله أو لذله جناحًا خفيضًا كما جعل لبيد للشمال يدًا، وللقرة زمانًا مبالغة في التذلل والتواضع لهما انتهى. والمعنى أنه جعل اللين ذلًا واستعار له جناحًا ثم رشح هذا المجاز بأن أمر بخفضه. وحكي أن أبا تمام لما نظم قوله: جاءه رجل بقصعة وقال له اعطني شيئًا من ماء الملام، فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل. وجناحا الإنسان جانباه، فالمعنى واخفض لهما جانبك ولا ترفعه فعل المتكبر عليهما. وقال بعض المتأخرين فأحسن: وقرأ الجمهور: {من الذل} بضم الذال. وقرأ ابن عباس وعروة بن جبير والجحدري وابن وثاب بكسر الذال وذلك على الاستعارة في الناس لأن ذلك يستعمل في الدواب في ضد الصعوبة، كما أن الذل بالضم في ضد الغير من الناس، ومن الظاهر أنها للسبب أي الحامل لك على خفض الجناح هو رحمتك لهما إذ صارا مفتقرين لك حالة الكبر كما كنت مفتقرًا إليهما حالة الصغر. قال أبو البقاء: {من الرحمة} أي من أجل الرحمة، أي من أجل رفقك بهما فمن متعلقة باخفض، ويجوز أن يكون حالًا من جناح. وقال ابن عطية: من الرحمة هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالًا، ويصح أن يكون ذلك لابتداء الغاية انتهى. ثم أمره تعالى بأن يدعو الله بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا بقاء لها. ثم نبَّه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله لهما وهي تربيتهما له صغيرًا، وتلك الحالة مما تزيده إشفاقًا ورحمة لهما إذ هي تذكير لحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه. وقال قتادة: نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ يعني {وقل ربِّ ارحمهما} بقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} وقيل: هي مخصوصة في حق المشركين. وقيل لا نسخ ولا تخصيص لأن له أن يدعو الله لوالديه الكافرين بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان، والظاهر أن الكاف في {كما} للتعليل أي {رب ارحمهما} لتربيتهما لي وجزاء على إحسانهما إليّ حالة الصغر والافتقار. وقال الحوفي: الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره رحمة مثل تربيتي صغيرًا. وقال أبو البقاء: {كما} نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل رحمتهما. وسرد الزمخشري وغيره أحاديث وآثارًا كثيرة في بر الوالدين يوقف عليها في كتبهم. ولما نهى تعالى عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين ولا سيما عند الكبر وكان الإنسان ربما تظاهر بعبادة وإحسان إلى والديه دون عقد ضمير على ذلك رياء وسمعة، أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من دون قصد عبادة الله والبر بالوالدين. ثم قال: {إن تكونوا صالحين} أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وأبتم إلى الخير فإنه غفور لما فرط من هِناتكم. والظاهر أن هذا عام لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها، ويندرج فيه من جنى على أبويه ثم تاب من جنايته. وقال ابن جبير: هي في المبارزة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلاّ الخير. اهـ. .قال أبو السعود: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} عبارةٌ عن الإنة الجانبِ والتواضعِ والتذلل لهما، فإن إعزازَهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل: واخفض لهما جناحَ الذليل أو جُعل لذله جَناحٌ كما جَعل لبيدٌ في قوله: للقَرة زمامًا وللشمال يدًا تشبيهًا له بطائر يخفض جناحَه لأفراخه تربيةً لها وشفقةً عليها، وأما جعلُ خفض الجناحِ عبارةً عن ترك الطيران كما فعله القفالُ فلا يناسب المقام {مِنَ الرحمة} من فرْط رحمتِك وعطفِك عليهما ورِقّتك لافتقارهما اليوم إلى مَنْ كان أفقرَ خلق الله تعالى إليهما ولا تكتفِ برحمتك الفانية بل ادعُ الله لهما برحمته الواسعة الباقية {وَقُل رَّبّ ارحمهما} برحمتك الدنيوية والأخرويةِ التي من جملتها الهدايةُ إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرَهما {كَمَا رَبَّيَانِى} الكاف في محل النصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي رحمةً مثلَ تربيتهما لي أو مثلَ رحمتهما لي على أن التربيةَ رحمةٌ ويجوز أن يكون لهما الرحمةُ والتربية معًا وقد ذُكر أحدُهما في أحد الجانبين والآخرُ كما يلوح به التعرّضُ لعنوان الربوبيةِ في مطلع الدعاء كأنه قيل: رب ارحمهما وربِّهما كما رحِماني وربّياني {صَغِيرًا} ويجوز أن تكون الكافُ للتعليل أي لأجل تربيتهما لي كقوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} ولقد بالغ عز وجل في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفَع الإحسانَ إليهما بتوحيده سبحانه ونظمَهما في سلك القضاءِ بهما معًا ثم ضيّق الأمرَ في باب مراعاتهما حتى لم يرخِّصْ في أدنى كلمةٍ تُفْلت من المتضجر مع ما له من موجبات الضجر ما لا يكاد يدخل تحت الحصر، وختمَها بأن جعل رحمتَه التي وسعت كلَّ شيء مُشْبَهةٌ بتربيتهما. وعن النبي عليه الصلاة والسلام: «رِضى الله في رضى الوالدين وسخطُه في سخطهما» وروي: «يفعل البارُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل النارَ ويفعل العاقُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل الجنة» وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبوَيَّ بلغا من الكِبَر أنى أَلي منهما ما وَلِيا مني في الصغر فهل قضيتُهما حقهما؟ قال: «لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يُحبّان بقاءَك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» وروي أن شيخًا أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إن ابني هذا له مالٌ كثير وإنه لا ينفق عليَّ من ماله، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال: إن هذا الشيخَ قد أنشأ في ابنه أبياتًا ما قُرع سمعٌ بمثلها فاستنشَدَها الشيخَ فقال: فغضب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أنتَ ومالُكَ لأبيك». {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ} من البر والعقوق {إِن تَكُونُواْ صالحين} قاصدين للصلاح والبِرِّ دون العقوقِ والفساد {فَإِنَّهُ} تعالى: {كَانَ لِلاْوَّابِينَ} أي الرجّاعين إليه تعالى عما فرَط منهم مما لا يكاد يخلو عنه البشر {غَفُورًا} لما وقع منهم من نوعِ تقصير أو أذيةٍ فعليةٍ أو قولية، وفيه ما لا يخفى من التشديد في الأمر بمراعاة حقوقِهما، ويجوز أن يكون عامًا لكل تائبٍ ويدخُل فيه الجاني على أبويه دخولًا أوليًا. اهـ. .قال الألوسي: وفي الكشاف تفسير قضى بأمر أمرًا مقطوعًا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلًا والمتضمن قيدًا وقال بعضهم: أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص. وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل، فقد أخرج أبو عبيد. وابن منيع، وابن المنذر. وابن مروديه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم {ووصى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس {وقضى رَبُّكَ} ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير. وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود. وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضًا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بمحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضًا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي. وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولًا كان أو فعلًا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} أي أمر ربك إلى آخر ما قال، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعمًا بالنعم العظام وما غير الله تعالى كذلك، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة.
|